سورة التوبة - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116)}.
التفسير:
الأوّاه: كثير التأوه والتوجّع.
وقوله تعالى: {ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ}.
هو استبعاد أن يكون من النبي والمؤمنين استغفار وترحّم للمشركين، ولو كانوا من أهليهم وذوى قرابتهم، إذا تبيّن لهم أنهم من أهل الكفر والضلال.
فالمشركون أعداء للّه، حرب على اللّه، والمؤمنون أولياء للّه.. ولن تجتمع الولاية للّه.. والولاية لأعداء اللّه.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [22: المجادلة] والاستغفار للمشركين والترحم عليهم- ولو كانوا أمواتا- يتدسس منه على شعور المؤمن شيء من الرضا عن حالهم التي كانوا عليها من الشرك والضلال، لأن الاستغفار لهم إنما ينبعث عن عاطفة الرحمة بهم والإشفاق عليهم، في ذوات أنفسهم، وما تلبست به تلك الذوات من كفر وضلال.. وهذا من شأنه أن يدخل؟؟؟ على مشاعر المؤمن في إيمانه، ويبعده عن الاحتفاظ به نقيّا خالصا من كل شائبة.
وقد نهى اللّه سبحانه، النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- أن يصلى على من مات من المشركين أو أن يقوم على قبره.. فقال تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ.. إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ} [84: التوبة].
وفى قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ} بيان إلى أن النهى عن الاستغفار للمشركين إنما هو من بعد أن يتحقق أنهم ماتوا على الشرك، وأنهم أصبحوا في أصحاب النار.. وهؤلاء هم الذين بلغتهم الدعوة الإسلامية من مشركى العرب، ثم لم يستجيبوا لها، ومالوا على شركهم الذين كانوا عليه!.
قوله تعالى: {وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}.
هو إجابة عن سؤال وقع، أو هو متوقّع أن يقع، بعد الاستماع إلى قوله تعالى: {ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} والسؤال الذي يقع بعد الاستماع إلى هذه الآية: وكيف استغفر إبراهيم لأبيه، وقد كان أبوه من المشركين؟
وفى القرآن الكريم يقول اللّه تعالى على لسان إبراهيم: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [83- 86: الشعراء].
فكيف يستغفر إبراهيم- خليل الرحمن وأبو الأنبياء- لأبيه وهو من المشركين؟
والجواب، قد جاءت به هذه الآية: {وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}.
فإبراهيم لم يستغفر لأبيه إلا وهو يطمع في أن يهديه اللّه إلى الإيمان.
يشير إلى هذا، ذلك الحوار الذي سجله القرآن الكريم بين إبراهيم وأبيه.
يقول اللّه تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا قالَ: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا} [41- 47: مريم] فإبراهيم لم يستغفر لأبيه إلا وهو يطمع في أن يستجيب له، وأن يسلك معه الطريق إلى مواقع الهدى والإيمان.
{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}.
وهذا البيان إنما انكشف لإبراهيم بعد أن مات أبوه، وهو على ما هو عليه من شرك.
وهنا انقطع رجاء إبراهيم في هداية أبيه.. فأمسك لسانه وقلبه عن الولاء له.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} إشارة إلى أن إبراهيم مع ما في قلبه من حنان ورقة وما تفيض به نفسه من مشاعر حسّاسة مرهفة، تتأثر تأثّرا قويا بما يلقاها من وقائع الحياة- فإنه مع هذا- قهر في نفسه كل عاطفة نحو أبيه، وتبرأ منه، إيثارا لولائه للّه، ولدين اللّه.
فإبراهيم هنا هو القدوة والأسوة في أعلى مستوياتها، للولاء للّه، والإخلاص لدين اللّه.. فلا حساب عنده لعاطفة قرابة تدخل شيئا من الضيم على ولائه لربّه، وإخلاصه لدينه.
قوله تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
فى هذا ما يكشف عن لطف اللّه ورحمته بعباده، وأنه- سبحانه- لا يأخذهم بالعقاب، ولا ينزلهم منازل الضّالين، إلا بعد أن يبيّن لهم الطريق الذي يسيرون عليه، وما يأخذون أو يدعون من الأمور.
أما ما يقع من العباد مما لم يكن قد جاءهم أمر اللّه فيه، فهو معفوّ عنه عند اللّه، ولو كان مما نهى اللّه عنه بعد أن وقع منهم.
والآية تدفع عن صدور المسلمين ما وقع فيها من حسرة وندم على ما وقع منهم من استغفار لمن مات من أهليهم وأصدقائهم على الشرك، قبل أن يجىء النهى عن الاستغفار لهم.. فلا شيء عليهم في هذا، لأنهم لم يفعلوا أمرا كان واقعا تحت الحظر، ولم يأتوا منكرا نهاهم اللّه عنه.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} إشارة إلى أن العلم هو الأساس الذي ينبغى أن تقوم عليه تصرفات العباد، وأن تنضبط عليه أعمالهم، وأن كل عمل لا يستند إلى علم ومعرفة هو لغو لا حساب له، ولا اعتداد به.
وفى هذا دعوة إلى العلم الذي يسبق كل عمل يعالجه الإنسان، فمن عمل بلا علم ضلّ سعيه، وبطل عمله.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}.
وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها. إذ قد دعت الآيات السابقة إلى قطع علائق المودة والموالاة بين المؤمنين وبين من لهم بهم صلة من المشركين.. وهذه الآية تشدّ المؤمنين باللّه إليه، وتقيم وجوههم له، دون التفات إلى غيره، إذ أن له وجده- سبحانه- ملك السموات والأرض، وإليه أمر الحياة والموت.
لا يملك أحد معه شيئا من نفع أو ضر، ومن موت أو حياة.. فمن جعل ولاءه لغير اللّه فقد ضلّ وخسر، وليس له من دون اللّه ناصر ينصره، أو ولىّ يعينه ويشدّ أزره.


{لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)}.
التفسير:
قوله تعالى: {لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ}.
اللام في {لَقَدْ} هى اللام الواقعة، في جواب قسم مقدر.. وهذا القسم لتوكيد التوبة، ووقوعها وقوعا تاما كاملا، لم يبق معها ذنب، أو معصية.
فهى توبة يخرج بعدها من وقعت عليه معافى من كل سوء، مبرأ من كل مأخذ.
والزيغ: الانحراف عن طريق الحق، والميل إلى الباطل.
وذكر النبىّ هنا في التوبة- وهو صلوات اللّه وسلامه عليه لم يقع منه- وحاشاه- شىء، في هذا تكريم للمهاجرين والأنصار وتشريف لهم، بنظمهم مع هذا الكوكب الدرّىّ الوضيء.. في ساحة رضوان اللّه ومغفرته.. وقد قرأ الرّضا علىّ بن موسى: {لقد تاب اللّه بالنبي على المهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة}.
ويجوز أن يكون المعنى: {لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} أي لقد غفر له كل هنة تمسّ مقام النبوّة، ليظلّ النبىّ هكذا في مقامه العظيم من ربّه.. وقد أمر اللّه سبحانه النبىّ بالاستغفار من ذنوبه بقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}.
وغفر للنبى الكريم ما تقدم من ذنبه وما تأخر في قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ}.
فليست ذنوب النبىّ- صلى اللّه عليه وسلم- ذنوبا بالمعنى الذي يفهم من كلمة ذنب بالنسبة لغير النبىّ من الناس.. وقد قيل: سيئات المقربين حسنات الأبرار.
فكيف بالنبيّ الكريم؟
وقد عدّ اللّه سبحانه وتعالى إذن النبىّ المنافقين الذين جاءوه معتذرين-
عدّ ذلك ذنبا، عفا اللّه عنه.. وهو أمر لو وقع من غير النبىّ لما كان موضعا لمؤاخذة أو لوم.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ} [43: التوبة] وفى قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} إشارة إلى ما كان من لطف اللّه بالمؤمنين في غزوة تبوك، وأن شدّة هذه الغزوة، والظروف التي دعى فيها المسلمون إلى الجهاد قد عرضت بعض المؤمنين لامتحان عسر، ضاقت به صدورهم، وتلجلجت معه نياتهم، واضطربت عزائمهم، ولكنّ اللّه سبحانه ربط على قلوبهم، وأمسك بهم على طريق الحقّ، فمضوا على طريق الجهاد.
روى عن الحسن البصري: أن العشرة من المسلمين في تلك الغزوة كانوا يخرجون على بعير واحد يعتقبونه بينهم، يركب الرجل ساعة، ثم ينزل فيركب غيره.. وكان الشعير المسوّس والنمر المدوّد، والإهالة السّنخة (أي الزيت المتغير طعمه وريحه) طعامهم.. وكان النفر منهم يخرجون ما معهم من النميرات بينهم، فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ النمرة فلاكها (أي أدارها في فمه) حتى يجد طعمها، ثم يعطيها صاحبه، فيمصّها، ثم يشرب عليها جرعة ماء، حتى تأنى على آخرهم، فلا يبقى من النمرة إلا النّواة!!..
وفى قوله تعالى: {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} ما يكشف عن فضل اللّه على النبىّ ومن تبعه من المهاجرين والأنصار.. وأنه سبحانه، لرأفته بهم، ورحمته لهم، قد أخذ بيد من كاد يسقط منهم، وينزل عن هذا المنزل الكريم الذي أحلّ اللّه فيه المهاجرين والأنصار، واختصّهم به، فهم أبدا في ظلال رأفته ورحمته.. وحسبهم بهذا سلاما وأمنا، وحسبهم به شرفا وفضلا.
قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} عطفت هذه الآية على ما قبلها، فشملت بهذا توبة اللّه التي تابها على النبىّ والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة- شملت هذه التوبة الثلاثة الذين خلّفوا، وقد أشرنا إلى قصتهم من قبل.
وفى عطف الثلاثة الذين خلّفوا على النبىّ والمهاجرين والأنصار تكريم لهم، وتنويه بتوبتهم، وأنها توبة مقبولة، محيت بها كل الآثار التي علقت بهم من تخلّفهم عن النبىّ.. وبهذا حقّ لهم أن يكونوا فيمن تاب اللّه عليهم: النبىّ والمهاجرين والأنصار.. وهم درجات عند اللّه.
وفى قوله تعالى: {حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} إشارة إلى ما وقع في نفوس هؤلاء الثلاثة الذين خلّفوا من ندم وحسرة.
لقد ضاقت عليهم الأرض على سعتها، بل وضاقت عليهم أنفسهم، فلم تحتملهم، ولم تجد القرار والسّكن إليهم، وهذا يعنى ثقل عما كانوا يعانونه من ندم وألم، ولهذا كانت توبتهم نصوحا صادقة، لا تنتكس بهم على أعقابهم أبدا.
وقد حذف جواب الشرط هنا، إذ دلّ عليه قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ}.
أي أنهم حين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه- لجئوا إلى اللّه، وفرّوا إليه تائبين مستغفرين.
والظن هنا بمعنى اليقين، أي أنهم أيقنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه.
ولو كان ظنهم غير واقع موقع اليقين، لما كان منهم هذا الندم القاتل، وتلك الحسرة المميتة!- وفى قوله تعالى: {ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا}.
نلحظ من العطف بالحرف {ثُمَّ} الذي يفيد التراخي.. أن اللّه سبحانه وتعالى أراد أن يمتحنهم بهذا البلاء الذي هم فيه، وأن يدعهم مع هذا الهمّ الذي ركبهم، حتى يكون في هذا تصفية لنفوسهم وتمكين لتوبتهم- فلم ينزل القرآن بالعفو عنهم وقبول توبتهم إلا بعد مدة قيل إنها بلغت خمسين يوما.. فهذه الخمسون يوما التي قضاها الثلاثة الذين خلّفوا كانت أشبه ببوتقة صهرت فيها نفوسهم، وصفّيت مما كان قد علق بها من خبث ووضر!.
ولو جاءت التوبة عليهم قبل أن يدخلوا في هذه التجربة ويعيشوا فيها تلك الأيام والليالى، لما وجدوا أنفسهم على تلك الحال التي استقبلوها بها بعد هذا الزمن المتراخى، وبعد تلك التجربة القاسية، التي كشفت عن هذا المعدن الكريم لتلك النفوس الكريمة، ولو لا ذلك لحطمتها المحنة وأكلتها نار التجربة.
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} إشارة إلى أن التوبة النصوح لا تكون إلا بتوفيق من اللّه سبحانه وتعالى إليها.. وأنه إن لم يوفقهم اللّه سبحانه إلى هذا الموقف، ويربط على قلوبهم فيه، لم يكن منهم هذا الصبر على البلاء، ولا احتمال هذا المكروه الذي وقعوا فيه.. وهذا هو معنى {ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} أي قبلهم اللّه وتاب عليهم، فكانوا من التائبين.
والتوبة: أصلها من التّوب، والرجوع، يقال تاب إلى اللّه يتوب: أي رجع عن معصيته إليه.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه قد جاء في الآية السابقة ذكر الثلاثة الذين خلّفوا، وأن اللّه قد تاب عليهم، وعفا عنهم، وأنزلهم منازل رضوانه، وجعلهم معلما من معالم الثبات مع الحق والولاء له.
فأجرى لهم في القرآن الكريم ذكرا، وجعل لهم في العالمين قدرا.
وذلك كله بسبب أنهم أقاموا أنفسهم على كلمة الصدق، فلم يكذبوا على رسول اللّه، ولم يجيئوا إليه بأعذار ملفقة، بل جاءوا إليه يقولون قولة الحق على أنفسهم!.
فقالوا: يا رسول اللّه.. إننا لا عذر لنا في تخلفنا عن الجهاد معك، فخذ للّه ولك من أنفسنا وأموالنا ما تشاء! فكانت ثمرة صدقهم، هو هذا الذي انتهى إليه أمرهم.
فالدعوة إلى الصدق هنا وإلى التمسك به، دعوة تجد بين يديها المثل الواقع للخير العظيم الذي يناله الصادقون بصدقهم.. وإن احتمل الصادقون في سبيل كلمة الحق شيئا من الأذى والضرّ، في أول الأمر، فإن العاقبة دائما لهم، وهى عاقبة طيبة، مسعدة.. تهيىء لصاحبها الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.


{ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)}.
التفسير:
قوله تعالى: {ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ..}.
هو إنكار من اللّه سبحانه وتعالى على من يتخلّفون عن رسول اللّه، وهو في طريقه إلى الجهاد ولقاء العدوّ- ينكر اللّه عليهم تخلّفهم هذا، وقعودهم عن اللحاق برسوله، والانتظام في ركب المجاهدين.. وفى الإنكار أمر ملزم لهم أن يكونوا مع رسول اللّه حيث يكون، ومن لم يستجب لهذا الأمر فهو على خلاف للّه ورسوله، ومشاقة للّه ورسوله، يلقى جزاء المخالفين، وينزل منازل الظالمين، ويصلى في الآخرة ما يصلاه الكفار والمنافقون من عذاب السعير.
وقد خصّ أهل المدينة ومن حولهم بالذّكر هنا لأنهم مع رسول اللّه، وبين يديه، وبمحضر ومشهد منه، فكيف يسوغ لهم أن يروا النبي قائما على أمر يعالج منه حملا ثقيلا، ثم يقفون موقف المتفرج، لا يشاركونه فيما يعمل، ولا يحملون عنه بعض ما يحمل؟ إن ذلك وإن لم يقض به الدين قضت به المروءة وأوجبته حقوق الجار على الجار! فكيف وهو أمر أمرهم اللّه به، ووعدهم الجزاء العظيم عليه، وتوعدهم بالعقاب الأليم على النكوص عنه؟
وكيف بهنأ لمسلم طعام أو يسوغ له شراب، وهو يرى النبي يخوض غمرات القتال، ثم يضنّ بنفسه عن أن تأخذ مكانها في المجاهدين، والمستشهدين، أهناك عند المؤمن باللّه شيء أعزّ عليه من النبىّ، ونفس أكرم عليه من نفسه؟
واللّه سبحانه وتعالى يقول: {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}.
وفى قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً، يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
الإشارة هنا بقوله تعالى {ذلك} مشار بها إلى ما تقدم في صدر الآية من الإنكار على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول اللّه، وأن يؤثروا أنفسهم على نفسه، ويضنّوا بها على معاناة الجهاد، وحمل أعباء القتال، فهذا الإنكار عليهم إنما هو بسبب أنهم سيغبنون أنفسهم، ويحرمونها ما أعدّ اللّه المجاهدين من أجر عظيم، لكل عمل يعملونه في سبيل اللّه، ولكل ضرّ أو أذى يصيبهم وهم على طريق الجهاد.. فلا يصيبهم ظمأ، ولا يمسّهم تعب، ولا تنالهم مخمصة (أي جوع).. إلا كتبه اللّه لهم وأجزل لهم المثوبة عليه.. كذلك لا ينالون من عدوّ نيلا، ولا يصيبونه بوهن أو ضعف، إلا كتب لهم به عمل صالح، وعدّ لهم قربة عند اللّه، يدخلون بها مداخل المحسنين.. و{إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
قوله تعالى: {وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
هو عطف على ما سبق من الأعمال الصالحة التي تكتب للمجاهدين، وتسجّل في سجلّ أعمالهم.. فأية نفقة- ولو كانت صغيرة- تكتب لهم، وأي خطوة يخطونها، ويقطعون بها واديا أو يجتازون مفازة، يكتبها اللّه لهم، ويضيفها إلى حسابهم.. وذلك {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
وفى قوله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} ما يشير إلى أن اللّه سبحانه وتعالى ينزل المجاهد منازل رضوانه، ويستضيفه في ساحة كرمه، منذ أن يبدأ في التهيؤ للجهاد إلى أن يعود إلى منزله الذي خرج منه، أو يستشهد في سبيل اللّه.. وأن كل خطوة من خطواته وهو على طريق الجهاد، وكل حركة، أو لفتة، أو إشارة منه، هى مما يعدّ عند اللّه في باب الإحسان، وذلك للمجاهد خاصة من دون الناس جميعا، حتى إذا آب المجاهد من جهاده كان سجل أعماله كلّه حسنات.. {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} أما السيئات، فلا سيئات، إذ قد تجاوز اللّه عنها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ} [16: الأحقاف].
قوله تعالى: {وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} مناسبة هذه الآية لما قبلها، هو أن الآيتين السابقتين قد جاء فيهما إنكار على المتخلفين عن رسول اللّه، وأمر ملزم لهم بالجهاد معه، كما جاء فيهما عرض كاشف لما اختصّ اللّه سبحانه وتعالى به المجاهدين من أجر كريم، وثواب عظيم، لا يناله غيرهم، ولا يبلغه سواهم- وقد كان ذلك داعيا إلى تحريك أشواق المسلمين إلى بلوغ هذه الغابة، واللحاق بأهلها، وذلك لا يكون إلا بالانتظام في ركب المجاهدين، وهذا من شأنه أن يجعل المسلمين جميعا على طريق الجهاد، وفى ميدان القتال، الأمر الذي لو وقع بصفة دائمة لأخلّ بنظام المجتمع، وعطّل كثيرا من جوانب الحياة، وأخلى ميادينها من العاملين فيها.
ولهذا جاء قوله تعالى: {وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} أي جميعا.
فذلك أمر- كما عرفنا- يدخل الخلل على نظام الحياة في المجتمع، وعلى المجاهدين أنفسهم، إذا لم يكن من ورائهم من يعمل فيما يهيىء لهم حاجاتهم، من مؤن، وسلاح، وعتاد.
ولكن كيف السبيل إلى صرف بعض المسلمين عن وجهتهم إلى القتال، وكلهم يؤثر أن يكون في هذا الميدان، ابتغاء مرضاة اللّه؟
لقد كان من تدبير اللّه سبحانه وتعالى أن فتح لهم جبهة جديدة من جهات الجهاد.. إذ يقول اللّه تعالى: {فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}.
فهناك نفر كالنفر إلى الجهاد، وهو النّفر إلى التفقه في الدّين، والتعرف على أحكام الشريعة.. ففى النفر إلى الجهاد يقول اللّه تعالى. {انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا} وفى النفر إلى العلم يقول للّه تعالى: {فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}.
فطلب العلم فريضة على كل مسلم كفريضة الجهاد، سواء بسواء.. فإذا كان الجهاد بالسيف فكذلك يكون الجهاد في ميدان العلم، والتفقه في الدين. إنه يدفع عن القلوب غشاوات الجهل والضلال، ويمكنّ لدعوة لإسلام أن تأخذ مكانها من العقول والقلوب، فتمكن لها في أهلها، وتقيمهم منها على مودة وإخاء، فيزكو نيتها الطيب فيهم، وتؤتى مبادئها أكلها المبارك لأيديهم.
فالتفقّه في الشريعة، ومطالعة آياتها المعجزة، والوقوف على ما فيها من روائع الحكمة، وأسرار الوجود- هو الذي يقيم في نفس المسلم إيمانا صحيحا، ومعتقدا سليما متمكنا، يهيىء للمجتمع الإسلامى، الإنسان المؤمن الذي يجاهد في سبيله، ويستشهد من أجل حمايته، ودفع يد المعتدين عليه.
وليس معنى النّفر هنا شدّ الرحال، وقطع الفيافي والقفار، بل إن معناه شدّ العزائم، وتوقّد الهمم، واستجماع النفوس، وإخلاص النيّات، والتجرد لتلقّى العلم، والصبر على معاناة الدرس والنظر.
ذلك أن تحصيل العلم، وقطف ثمراته، ليس بالأمر الهيّن، الذي يقع لأى يد تمتد إليه، ويستجيب لأى عين تطمح إليه، وتطمع فيه- وإنما هو كالجهاد في ميدان القتال، حيث لا يكتب النصر للمجاهدين إلا بركوب الأخطار، وملاقاة الأهوال، ومصادمة الموت.
ومن هنا تعادلت كفّة العلماء مع كفة المجاهدين.. كما ورد في الحديث: «يوزن مداد العلماء بدم الشهداء»..!
وليس النفر محدودا بالنّفر إلى الجهاد في سبيل اللّه، ولا بالنفر لطلب العلم، وإنما هو أيضا ينسحب إلى كل ميدان من ميادين العمل والكفاح.
فحيثما كانت مشقة ومعاناة يحملها لإنسان في صبر وعزم، في مجال العمل الصالح النافع له ولغيره، فهو نفر إلى الجهاد، وصاحبه في حساب المجاهدين! وعلى هذا نفهم الآية الكريمة على أنها دعوة للمجتمع الإسلامى أن يملأ كل ميادين العمل في الحياة، وأن يأخذ كلّ مسلم المكان المناسب له، وأن يعمل في الميدان الذي يمكن أن يعطى فيه أفضل ما تجود به ملكاته وقدراته، العقلية، أو الجسدية.. وشرط واحد هو الذي ينبغى أن يكون عليه العامل ليكون مجاهدا، هو أن يخلص لعمله، وأن يعطيه كل جهده، وأن يبذل له كل حوله وحيلته، في غير فتور، أو تهاون أو تقصير.. وإلا كان ذلك نفاقا، وكان خيانة، سواء بسواء، كالنفاق مع اللّه، والخيانة لرسول اللّه، وللمؤمنين.
ونلمح هذا المعنى الذي ألمعنا إليه هنا في قوله تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا}.
فالتفقّه ليس مجرّد العلم السطحى، بل هو العلم المتفحص المتمكن، الذي ينفذ إلى أعماق الأشياء، ويقع على الصميم منها.
فهذا هو العلم، أو الفقه، الذي يرفع صاحبه إلى مقام المجاهدين.
وكذلك العمل، إن لم يبلغ به العامل درجة تبلغ حدّ الكمال، للقدرة المتاحة له، وللوسائل التي بين يديه، لم يكن ليتوازن أبدا مع درجة الجهاد في سبيل اللّه، ولا مع منزلة التفقه في دين اللّه، ولم يكن للعامل أن ينتظم في سلك المجاهدين، والمتفقهين.. إن العامل الذي يستأهل أن يكون مجاهدا في سبيل اللّه حقّا، هو من فقه في عمله، وعرف أسرار صنعته.. وبغير هذا لن يجىء منه الإحسان في عمله، والإتقان لصنعته.. والرسول صلوات اللّه وسلامه عليه يقول: «إن اللّه يحبّ إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه».
وقد أشرنا إلى ما للعلم من أثر في الإيمان باللّه، عند تفسير قوله تعالى {الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (لآية: 97) من هذه السورة.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11